لماذا لم يصبح العراق بلداً ثرياً رغم غناه بالنفط؟
ارتفعت مداخيله من النفط إلى مبالغ ضخمة، بالتزامن مع سيولة نقدية قياسية في أسواقه..
لكن رغم ذلك لا يزال أكثر من ربع سكانه يرزحون تحت خط الفقر..
فهل سيتمكن العراق من تحقيق توزيع أكثر عدلاً للثروات؟ وكيف يمكن إصلاح اقتصاده وتنويع مصادر دخله بعيداً عن النفط؟
خلال مارس الجاري، كرر صندوق النقد الدولي دعوة الحكومة العراقية، إلى تنويع مصادر الدخل والابتعاد تدريجياً عن الاعتماد المفرط على النفط، ما يعطي ضماناً بعدم التأثر بتقلبات الأسواق العالمية، بالإضافة إلى تحقيق الاستدامة المالية. تأتي تلك الدعوة في إشارة إلى الهزات العنيفة التي شهدها قطاع الطاقة في العالم، بسبب جائحة كورونا، ثم القرارات المتوالية لمنظمة الدول المصدرة للنفط، "أوبك"، بخفض الإنتاج، والتجاذبات الحادة بين بغداد وأربيل حول حقول النفط والغاز في إقليم كردستان، بالإضافة إلى عدم استقرار سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار الأميركي.
آفاق الإصلاح تمر عبر "تغيير فلسفة الدولة"
أثناء كلمته التي ألقاها أمام منتدى الشراكات الصناعية في البصرة، يناير الماضي، قال رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إنه يجب "تغيير فلسفة الدولة" بالاعتماد على الموارد الطبيعية، لتأسيس صناعة مستدامة تلبي حاجة السوق المحلية، ليرتبط الاقتصاد العراقي بدورة الاقتصاد العالمي. وجاء ذلك التصريح أثناء تقديم السوداني خطة حكومته للإصلاح الاقتصادي.
غير أن الحكومات العراقية المتعاقبة، لم تنجح خلال العقدين الماضيين في تحقيق ذلك الهدف، أو الالتزام بتوصيات المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي. يقول الخبير الاقتصادي العراقي، منار العبيدي، الذي تحدث إلى بودكاست زوايا، إن "الحكومات العراقية كانت تبدأ من حيث بدأت سابقاتها، وليس من حيث انتهت"، وهي إشكالية في طريقة إدارة الدولة في العراق، يتعدى تاثيرها الجوانب السياسية، ليشمل المستويات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
ويرجع العبيدي ذلك إلى حالة عدم الاستقرار السياسي، والحروب المتواصلة التي خاضها العراق على مر عقود، بسبب المغامرات العسكرية التي انخرط فيها النظام السابق ضد إيران والكويت، والحصار المتواصل الذي تلاها، وصولاً إلى حرب عام 2003، وتأسيس نظام سياسي قائم على المحاصصة الحزبية. هذه الاضطرابات تسببت في استمرار حالة عدم الاستقرار، التي فشلت الأحزاب السياسية في تخطيها.
إدارة الاقتصاد.. بين المحاصصة وتفشي الفساد
رغم الثروات الطبيعية الضخمة التي يملكها العراق، إلا أنه لم يشهد مجهوداً استثمارياً حقيقياً يكفل تنوع الاقتصاد. فبعد عقود من التخطيط المركزي الذي وجه مداخيل تصدير النفط إلى تمويل الحروب الإقليمية، واجهت بغداد حصاراً اقتصادياً وتجارياً دولياً كجزء من العقوبات الدولية التي فُرضت على البلاد عقب احتلال الكويت.
وبعد عام 2003، وإثر انتهاء الحرب التي أفضت إلى تغيير سياسي جذري في البلاد، أصيبت المؤسسات الاقتصادية المختلفة بالشلل، بسبب الدمار الكبير الناتج عن العمليات القتالية. وإثر فترة انتقالية شهدت حالة من الفراغ السياسي، شهد العراق تنظيم أول انتخابات تعددية، أفضت إلى تكوين نظام يعتمد على المحاصصة الحزبية، التي يتم بموجبها توزيع المناصب العليا وموارد الدولة المالية على أسس عرقية وطائفية. ويصف محللون محليون تلك الفترة، بأنها مرحلة "الأزمة الشاملة".
يضيف الخبير الاقتصادي العراقي منار العبيدي، أن دخول العراق في دوامة الحرب الأهلية، ثم مقاومة الجماعات الإرهابية، وسطوة الميليشيات المسلحة الخارجة عن القانون، جعل إمكانية توجيه الدولة لمواردها الاقتصادية نحو الاستثمار شبه مستحيلة. إذ تركزت المجهودات الحكومية على النواحي الأمنية والسياسية. ورغم إنفاق بغداد أكثر من 140 مليار دولار على النشاط الاقتصادي، بين عامي 2004 و2016، إلا أن تلك الأموال كانت عرضة إلى الفساد المالي والإداري، في ظل غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة.
دفع الرواتب بدلاً عن الاستثمار والتنمية
أقر مجلس النواب العراقي موازنة استثنائية في يونيو 2023، تضمنت أرقاماً قياسية للإنفاق الحكومي، إذ تجاوزت 153 مليار دولار. وتذهب النسبة الأكبر من تلك الأموال إلى دفع رواتب الموظفين في القطاع الحكومي، الذي يمثل أكبر مشغل في البلاد، في غياب لافت للقطاع الخاص. من جهته صرح رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، أن نسبة الزيادة في موظفي القطاع العام بين عامي 2004 و2019 بلغت نحو 400 في المئة.
ولم تتغير الاختيارات الاقتصادية للحكومات العراقية بعد 2003 عن سابقاتها، إذ لا يزال القطاع العام يهيمن ليس فقط على الأنشطة الاقتصادية، بل على ميزانية الدولة نفسها، على شكل رواتب لأكثر من 4 ملايين موظف، بالإضافة إلى 3 ملايين متقاعد، ومليون شخص يتلقون رواتب الرعاية الاجتماعية. ولم تخرج الميزانية الأخيرة التي أقرها مجلس النواب العراقي عن تلك السياسة، إذ تضمنت إضافة رواتب لمليون شخص من الموظفين الحكوميين الجدد، في مناصب دائمة أو وقتية، حسب تصريح عضو اللجنة المالية بالبرلمان العراقي، محمد النوري لرويترز.
ولدفع تلك المستحقات المالية الضخمة، يعتمد العراق على إيرادات تصدير النفط بنسبة تفوق 90 في المئة، ما يعني أن كامل الميزانية ستبقى رهينة لتقلبات أسعار الطاقة في السوق العالمية خلال الأشهر المقبلة. وهو ما حدث سابقاً أثناء الأزمة العالمية التي سببتها جائحة كورونا. وتبعاً لذلك فإن انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 60 دولاراً للبرميل قد يعني انهيار الميزانية العراقية.
بالإضافة إلى بقائها رهينة لتقلبات أسعار النفط، فإن السياسة الاقتصادية والمالية في العراق لا تستجيب للزيادة السكانية الكبيرة التي تشهدها البلاد، التي تشير تقارير دولية إلى إمكانية تحولها إلى أزمة سكانية، في ظل غياب البنية التحتية والمرافق الأساسية لكتلة سكانية قد يتجاوز عددها 50 مليون نسمة عام 2023. وتزداد خطورة الوضع في ظل تدني مستوى رأس المال البشري، بسبب انهيار النظام التعليمي.
رغم كونه ثاني بلد منتج للنفط في منظمة "أوبك"، بعد المملكة العربية السعودية، بإنتاج يومي يبلغ نحو 4 ملايين برميل يومياً إلا أن العراق، وعلى عكس دول الخليج المجاورة له، فشل في تحويل مداخيل ثرواته الطبيعية إلى مكاسب اقتصادية لسكانه. ويعزو الخبير الاقتصادي العراقي، عبد الرحمان الشيخلي، الذي تحدث إلى موقع قناة الحرة، هذا الفشل إلى "المناكفات السياسية والمحاصصة الطائفية والميول إلى دول مجاورة" لدى القوى السياسية الرئيسية التي تحكم المشهد السياسي العراقي.
ويضيف الشيخلي قائلاً، إن "الكثير من الأحزاب تعتمد على المردود النفطي الذي تتمتع به خلال الوقت الحاضر، دون أن تكلف نفسها عناء العمل على إعادة بناء اقتصاد متين". لذلك فإن نظام المحاصصة سيستمر في الدفع نحو التوظيف الحكومي بطريقة غير فعالة اقتصادياً، عبر ما يُعرف بالتعيينات الإلزامية.
لا توجد مؤشرات على اتخاذ الحكومات العراقية المتعاقبة إجراءات حقيقية للإصلاح الاقتصادي، قصد تنويع مصادر الدخل، عبر الاستثمار في قطاعات ذات قدرة تشغيلية عالية، أو تعطي قيمة مضافة للثروات الطبيعية للبلاد. وتشمل تلك الأنشطة قطاعات مثل الزراعة والصناعة والسياحة. بل تواصل الاعتماد على مداخيل تصدير النفط لتمويل موازنة تذهب أغلب مواردها لسداد رواتب ملايين الموظفين، يعمل أغلبهم في قطاعات غير منتجة.
وفي ظل استمرار تلك السياسة، وتزامنها مع تواصل تدني ترتيب العراق في المؤشر العالمي لمدركات الفساد، والتقلبات السياسية الإقليمية والدولية، التي تؤثر على سوق الطاقة العالمي، فإن المؤسسات الدولية لا تتوقع خروجاً سريعاً للعراق من أزمته الحالية. وتزداد خطورة الوضع إذا ما حدثت تغيرات طارئة أو هزات جديدة في أسعار النفط، حيث سيكون قد فات الأوان لتنفيذ أي إجراءات أو قوانين إصلاحية، بسبب غياب السيولة المالية التي يتم إهدارها اليوم