متى توقّع السعودية سلاما مع إسرائيل؟
المواجهة مع إيران قد تضغط على السعودية لتغيير سياساتها القديمة ضد إسرائيل

اليوم قبل 78 عاما التقى الراحلان مؤسس السعودية الملك عبدالعزيز ابن سعود ورئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت على متن ”يو اس اس كوينسي“ في البحر الأحمر. تصدّر الحوار — في ذاك اللقاء الشهير الذي أسس تحالفا بين الدولتين — مطالبة العاهل السعودي بوقف هجرة اليهود الى فلسطين وشرائهم الأراضي فيها. واقترح الزعيم السعودي توطين اللاجئين اليهود في دول المحور المهزومة في الحرب الثانية، وقال أن تعايش اليهود صعب مع العرب، وأن للعرب الحق في الأرض، وأنهم سيختارون الموت على التنازل عن أرضهم لليهود.

لم يكن الملك السعودي الراحل يتحدث عن الفلسطينيين متضامنا معهم، بل كان يتحدث باسمهم وباسم العرب والمسلمين. كان شكل الدول وفلسفتها يختلف تماما عن مفهوم اليوم. كانت الدول توسعية، وكان ابن سعود في صدارة التوسعيين، فهو اعاد تأسيس الدولة السعودية، وتمدد في نجد، وهزم قبيلة شمر في حائل، وتزوّج منهم، فأنجب الملك الراحل عبدالله، وانتزع الحجاز من الهاشميين، وهزم الإخوان المسلمين. وقامت القبائل التي هزمها بقسم الولاء له، ومنها قبائل كانت تمتد من حائل شمالا حتى جنوب ووسط سوريا، وحاول الملك عبدالعزيز ضم ديارهم الى السعودية، لكن فرنسا وبريطانيا تقاسمتا المشرق— سوريا للفرنسيين والأردن للبريطانيين وحلفائهم الهاشميين.

لم يثن انتزاع القوى الأوروبية أراضي القبائل المتحالفة مع الملك ابن سعود، مثل الروله والعنزة، عن منحه لهم الجنسية السعودية، حتى من كان يعيش منهم في العراق وسوريا والأردن. مؤسس السعودية كان ينتصر للفلسطينيين في سياق العروبة. 

لكن الزمن ما لبث أن تغير، وبطلت عادة الشعوب العابرة للحدود، وقامت الدول القومية ذات السيادة على أرض محددة. 

الفلسطينيون لم يجاروا التاريخ، ولم يقيموا دولة على أراض 67، بل تمسكوا بوحدة عربية بائدة، ورفضوا القرارات الأممية التي نصت على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود. أما السعودية، فرأت في العمل الديبلوماسي حلا وحيدا، فسلكت مسرى التضامن في جامعة الدول العربية، وقادت مقاطعة إسرائيل ديبلوماسيا واقتصاديا بهدف اضعافها، وانتزاع السيادة منها، ونقلها للفلسطينيين. أما القوى الثورية بقيادة جمال عبدالناصر، فعايبت الديبلوماسية، وانخرطت في حروب خسرتها جميعها.

لسبب ما، تمسكت غالبية من الفلسطينيين وماتزال بالقوى الثورية والفوضى، وحمّلت السعودية مسؤولية الشقاء الفلسطيني. 

اليوم، يتغير العالم مرّة جديدة، وتتغير السعودية، فيما غالبية فلسطينية تصرّ على  ربط مستقبل السعوديين والمنطقة بمخيلة فوضوية عاطفية تصرّ على مواصلة صراع لم ينجب إلا الشقاء في الماضي، ولن ينجب إلا البؤس مستقبلا. 

قلبت العولمة النظام العالمي، وخصوصا الاقتصادي، واندثر النموذج السعودي المبني على إنفاق عائدات النفط الضخمة على السعوديين والمنطقة. الإمارات العربية أدركت الأمر، وتلتها السعودية منذ تسلّم الملك سلمان بن عبد العزيز ونجله ولي العهد محمد الحكم.

تدرك السعودية اليوم أن مستقبل الشعوب ورفاهيتها لم يعد يعتمد على المساحات أو الثروات الوطنية، وهو ما تطلب انقلابا جذريا قاده ولي العهد وفق خطته المعروفة بـ ”رؤية 2030”“ لتحويل الاقتصاد السعودي من النفط الى اقتصاد معرفة وخدمات. هذا النوع من الاقتصادات لا يعرف حدودا للدول، ولا يزدهر وسط الصراعات المفتوحة الأمد، بل هو اقتصاد عالمي تتنافس فيه الشركات من كل الدول على أسواق بلا حدود، وتسعى لاستقطاب مواهب من عموم البشر، والى تطوير الموارد البشرية المحلية.

الانقلاب في السياسة السعودية ترافق مع تغيير جذري في رؤية السعودية لنفسها ولسياستها الإقليمية والدولية، فهي لم تعد تنافس إيران على زعامة الإقليم، ولا هي مهتمة بشراء صداقات حكومات عربية. مشكلة السعودية مع إيران اليوم ليست تنافسا في الإقليم بل الخطر الأمني الذي تشكله إيران على كل حكومات وشعوب المنطقة، بمن فيهم السعودية. إيران لا تفهم معنى جوار بل تسعى لاخضاع العرب وتتصور نفسها زعيمة العالم الإسلامي، بل العالم بأكمله.  

أما السعودية، فخرجت من السباق الإقليمي، وصارت سياستها تتلخص بشعار ”السعودية أولا“، أي أن الرياض مستعدة أن تنفق على أي حكومة في الإقليم مقابل مكاسب واضحة للسعودية. هكذا، لم تعد تكترث المملكة للبنان أو لشؤونه لأنه قضية خاسرة وفي جيب طهران تماما، ولا فائدة واضحة لأي أموال قد تنفقها السعودية على اللبنانيين، ومثل ذلك السوريين وغيرهم.

الغريب أن إعلاء المصلحة السعودية لم يطل الموضوع الفلسطيني بعد، إذا على الرغم من أن المصلحة الاقتصادية والاقليمية للسعودية تقضي بتوقيع سلام فوري مع إسرائيل، ما تزال السعودية متمسكة بتضامن مفتوح الأمد مع الفلسطينيين.

طلب التضامن هو طلب فلسطيني يؤجل العرب بموجبه مصلحتهم في السلام الثنائي مع إسرائيل الى أن ينال الفلسطينيون مطالبهم. مشكلة الفلسطينيين أن لا قيادة لهم ولا مطالب مفهومة، فقط شعارات، وشعبوية، ومشاعر، وصراع أجيال مفتوح الأمد لا يشبه السياسات الحديثة للدول العربية، مثل الإمارات والسعودية، وهي دول صارت تربط سياساتها بجداول زمانية واضحة، فالوقت مال، وإضاعته إضاعة للموارد والفرص. 

لا بأس في تضامن العرب والسعودية مع الفلسطينيين، مثل تضامن تركيا ورئيسها رجب أردوغان مع القضية، أي تضامن في المواقف والتصريحات. أما في المصلحة الاقتصادية والسياسية، فعلاقات تركيا متينة بإسرائيل، بما في ذلك تبادل تجاري يكبر يوميا وعلاقات ديبلوماسية قوية. 

عندما ينظر أي فلسطيني في عيني أي سعودي ويطلب التضامن وعدم توقيع سلام مع إسرائيل، لا يمكن للفلسطيني تقديم أي حجج تثبت أن في تأجيل السلام السعودي مع إسرائيل مصلحة سعودية، بل هو مصلحة فلسطينية حصرية، وحتى هذه المصلحة الفلسطينية، عبثية وعاطفية، ولا خطة خلف مواصلة الصراع مع إسرائيل بل تستر على عجز الفلسطينيين عن حكم أنفسهم، وهو عجز يحاولون إخفائه خلف إسرائيل لأن لوم الآخر أسهل من الاعتراف بالخطأ وإصلاح الذات.

إن السلام الثنائي لكل من الدول العربية مع إسرائيل هو مصلحة وطنية خالصة يمكن تأجيلها لو أن للتأجيل مكاسب واضحة للفلسطينيين. لكن تأجيل هذه المصالح العربية في السلام مع إسرائيل في سبيل استمرار الفوضى الفلسطينية والفشل القائم هو خطأ يضاعف خسارات العرب باضافته الى الشقاء الفلسطيني تخلّف باقي العرب عن السير في ركب الاقتصاد العالمي واللحاق بالعصر الحالي.

المزيد

إسقاط تمثال صدام
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.