"فوضى".. الإسرائيليون أيضا يبكون

مسلسل فوضى الإسرائيلي في موسمه الرابع، الذي عرضته منصة نتفليكس، حطم الأرقام القياسية بحلوله في المرتبة الخامسة للبرامج الأكثر مشاهدة في العالم، وتصدرت اليونان وتركيا وقطر والأردن لائحة الدول التي أقبلت على متابعته.

الجبهة العربية الإيرانية لرفض السلام وعشق الحرب دعت منذ انطلاقة المسلسل الشيّق، قبل سنوات، إلى مقاطعته، في إطار مقاطعة كل ما هو إسرائيلي، فيما نشر بعض الممانعين والرافضين لوجود دولة إسرائيل مراجعات للمواسم الماضية قدموا فيها اعتراضات منها أن المسلسل لا يصوّر الشقاء الذي يتعرض الفلسطيني في مخيمات اللاجئين على الحواجز الإسرائيلية، وكأن مهمة كل عمل تلفزيوني، أو فني، أو أدبي استعراض كل تاريخ الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، بما في ذلك كل المشاكل القائمة.

فوضى، الذي كتب نصّه ويتألق في بطولته اليهودي الإسرائيلي من جذور عراقية ليور راز، نجح منذ انطلاقته في تفادي الصورة النمطية، فلم يقدّم الإسرائيليين في دور الضحايا الذين ينقلبون أبطالا، ولا هو يصوّر الفلسطينيين أشرارا ينقلبون ضحايا، بل هو صوّر كل من الطرفين ينخرطون في حرب لا أول لها ولا آخر. حرب ضاع هدفها منذ زمن بعيد وتحوّلت إلى دوّامة من الصراع المتواصل الذي يعبث بحياة الطرفين.

تأثيرات هذا الصراع العبثي ظهرت في المواسم الماضية، كما في الموسم الرابع الذي بدأ عرضه الأسبوع الماضي. من هذه التأثيرات أن الحروب غالبا ما تأخذ شكل الثأر الشخصي، فيتمرد فيها العسكر على القيادة السياسية والعسكرية، وينجرفون في المواجهة، ويقومون بممارسات خارج قوانين الحروب، فيتخفى الفلسطينيون بين المدنيين الفلسطينيين، ومثلهم تفعل فرقة الأمن الإسرائيلية المعروفة بالمستعربين، الذين ينخرطون بين المدنيين الفلسطينيين حتى يقضوا على الفلسطينيين ممن يشكلون خطرا على أمن إسرائيل.

وفي المسلسل قصص معروفة من تاريخ الحرب الخفية والعلنية بين الطرفين، بما في ذلك كيفية قيام الإسرائيليين بتجنيد عملاء فلسطينيين، وانقلاب هؤلاء العملاء أحيانا كثيرة ضد من يجندهم، وتعامل العملاء مع الجهة الفلسطينية، فينقلب السحر على الساحر ويتحول الطرف الإسرائيلي إلى هدف للعنف الفلسطيني، وأحيانا ضحية (وسبق أن صوّر فيلم بيت لحم الإسرائيلي الصادر عام 2013 هذه الحالة).

في مواسم فوضى الماضية، تمحورت روايات المسلسل حول مواجهات ضد فلسطينيين هاربين من وجه العدالة الإسرائيلية، ثم فلسطينيين قاتلوا في سوريا وانخرطوا مع داعش، ثم عادوا إلى الأراضي الفلسطينية بهدف تنفيذ أهداف داعشية ضد إسرائيل. في الموسم الحالي، المواجهة هي لإسرائيليين ضد فلسطينيين انتسبوا لحزب الله اللبناني، وعملوا على اختطاف كبار المسؤولين الإسرائيليين، واغتيال بعضهم الآخر، وصناعة صواريخ في الضفة الغربية، وإطلاقها ضد إسرائيل.

وتحمل التطورات المتتالية أحداث المسلسل إلى لبنان و"حزب الله". هنا تتراجع قدرة فوضى على تصوير المشهد اللبناني بدقة، فمسؤولي ومقاتلي "حزب الله" لهجتهم فلسطينية لا لبنانية، وطريق بيروت الشام يبدو سويا نظيفا ذي خطوط بيضاء وإضاءة، وهذا طبعا لا يشبه طرق لبنان المظلمة والتي تفتقر لأدنى أنواع الصيانة.

ويدور حديث بين مسؤول إسرائيلي ونظيره من "حزب الله"، وهنا يعاني النص من النمطية، إذ يبادر الإسرائيلي إلى القول إن الحزب أطاح بلبنان الذي كان يوصف بباريس الشرق الأوسط، وكأن "حزب الله" الذي حوّل لبنان إلى ما يشبه طهران أو قمّ تعنيه باريس أو أن يكون لبنان على شكل دبي أو سنغافورة أو غيرها من الدول الناجحة.

على أن قوة "فوضى" تتمثل في قيامه بتصوير الإسرائيليين على أنهم بشر، لا ماكينة قتل متفوقة تمعن في قتل الفلسطينيين بلا قلب. الإسرائيليون سئموا الموت، وضعضع القتال المتواصل عائلاتهم، يبكون لفقدان رفاق القتال عبر السنين، ويستعرضون أفلام الأفراح التي كانت فيها صفوفهم مكتملة الأصدقاء والأقرباء.

وحتى لا تخال جبهة رفض السلام والمقاطعة أن "فوضى" يأنسن الإسرائيليين ويشيطن الفلسطينيين، فهو يقوم بأنسنة الطرفين، فيقدم مزيجا من الشخصيات الفلسطينية العالقة، مثل الإسرائيليين، في صراع لم تختره، ولا تبدو قادرة على الهروب منه أو وقفه. عند الفلسطينيين من توطنت وانخرطت في المجتمع الإسرائيلي، ثم انهارت حياتها الإسرائيلية لأن أقرانها اليهود، بمن فيهم زوجها، انفضوا عنها عند أول مواجهة بين العرب واليهود. كذلك بين الفلسطينيين من راح ضحية التعييب المجتمعي بسبب تعاون أهله مع إسرائيل في الماضي، فانقلب ضد الإسرائيليين وحاول إيذائهم، لكنه في وطيس المواجهة تراجع حتى ينقذ حياة زوجه وأخته بدلا من التضحية بهما في سبيل القضية. ومن الفلسطينيين من يرى أن السلطة الفلسطينية متهاونة، وأن الحل الوحيد هو في القضاء عليها واستئناف قتال الإسرائيليين.

وفي آتون القتال هذا، يوظف الطرفان أساليب ملتوية تُعلي التفوق الميداني والعسكري والاستراتيجي على الإنسانية والتفوق الأخلاقي، فيما يؤدي الضمير أحيانا الى الخروج عن الأوامر، وهو ما يؤدي للإطاحة بحياة أبرياء.

التفصيل في تقييم المسلسل قد يؤدي إلى الكشف عن أحداثه وإفساد متعة التشويق لمن لم يشاهده بعد، لذا نتفاداها في هذا المقال، لكننا نشير إلى أنه على الرغم من أن العمل يصوّر مواجهة استخباراتية وعسكرية متواصلة بين الطرفين، إلا أنه جلي أن القيمين على العمل، وأبرز المشاركين في التمثيل فيه، لا يهوون الصراع، ولا يرغبون في إطالة أمده، بل هم يصورون الشقاء الناجم عنه للطرفين، وضرورة العمل على إنهائه.

أما المشهد الأخير، فيصور أحد أبرز الشخصيات وهو مطروح على الأرض، مثخنا بجراحه، مضرجا بدمائه، يتمتم الصلاة التي يتلوها اليهود عند اقبالهم على الموت، "اسمعي يا إسرائيل، الرب إلهنا، الرب واحد"، ويردد في الوقت نفسه آيات من سورة الفاتحة، خصوصا "مالك يوم الدين إياك نعبد واياك نستعين"، وفي هذا المشهد صورة "إبراهيمية" حول التشابه والشراكة بين اليهودية والإسلام، الذين يتصوران نفسيهما ينحدران من إبراهيم، جد اليهود وجد رسول المسلمين، وهو ما يجعل الصراع أكثر مرارة وإيلاما لأنه صراع بين أبناء العمومة.

المزيد

إسقاط تمثال صدام
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.