باسل غندور مخرج فيلمي "ثيب" و"الحارة"
باسل غندور مخرج فيلمي "ثيب" و"الحارة"

كارثة هي الصورة الوهمية التي يتصورها المجتمع العربي عن نفسه. أكثرية العرب يخالون مجتمعهم ملائكيا فاضلا، لا شتائم فيه، ولا ممارسة للجنس خارج إطار الزوجية، ولا مثلية جنسية، ولا احتساء للكحول، ولا عربدة، ولا كفر بالدين ولا بالذات الإلهية. يخال هؤلاء العرب أنفسهم من الصحابة والقديسين، فاضلين ملتزمين التقاليد والدين، وهي صورة محض خيال.  

نحن العرب، ككل الشعوب، لسنا سواسية، ولا نتشارك في رأي واحد، ولا ذوق واحد، ولا تقليد واحد. بيننا المكتفي جنسيا في الزواج، وبيننا الزوج اللعوب أو الملعوبة . بيننا الورع التقي العفيف، ومنا الفاجر والفاسد، ومنا من هم بين بين، يوم لك ويوم لربك، يوم خمر ويوم أمر، كل مسؤول عن أفعاله، أو كما ورد في كتاب المسلمين: "ولا تزر وازرة وزر أخرى".

الصورة الوهمية التي يتصورها العرب عن أنفسهم دفعتهم إلى ممارسة القمع الجماعي، وفرض الرقابة على الأفكار والأقوال كما على الإنتاج الأدبي والفكري والسينمائي، الدولي منه والمحلي. دوليا، كلما قدم غير مسلم رأيا أو رسما أو عملا استخف فيه بقصص المسلمين أو معتقداتهم أو شخصياتهم التاريخية، ثارت ثائرة المسلمين. غير المسلم لا يؤمن بنبوة محمد أصلا، ولا بالتوحيد، ولا بالإسلام، ويعبّر عن ذلك في رسم أو كتاب أو مقالة. ما يقوله شأنه، وإن كان في الآخرة يوم حساب، فله ما جنت يداه. لكن العرب، المسلمين منهم وغير المسلمين، يتوقعون أن يلتزم كل البشر رأيهم، وأن يمدحوا معتقداتهم، أو أن يخرس كل غير المسلم تحت طائلة الإيذاء الجسدي.

في دول العرب، القمع مشابه. ممنوع على العرب، مسلمين أو غير مسلمين، كتابة كتب أو مقالات أو إنتاج أغاني أو مسرحيات أو أفلام لا تتوافق وتقاليد البعض أو معتقداتهم، أو تؤيد المثلية، أو تُظهر أن العرب ليسوا صحابة وقديسين.

للمرة الثالثة في أقل من عام، تعلو صرخة عرب كثيرين ضد فيلم يعكس بدقّة العرب ومجتمعهم، فبعد الاعتراض على  تلميح فيلم ”أصحاب ولا أعز“ اللبناني إلى علاقات جنسية خارج الزواج ومثلية جنسية، وبعد رفع دعاوى فلسطينية ضد مشاهد عري نسائي في ”صالون هدى“، تعود جوقة الاعتراض ضد "القيم الهابطة والسقوط الأخلاقي" لتمارس صراخها وتطالب بمنع عرض ومحاسبة القيمين على فيلم "الحارة" الأردني بسبب ورود شتائم فيه والتلميح إلى ممارسات جنسية سرية بين حبيبين، فضلا عن تصوير نواد ليل تنتشر فيها الدعارة ويرتادها أرتال من الشباب العربي، من المحيط إلى الخليج.  

للمرة الثانية في أقل من عام، تقف ميسا عبد الهادي في عين العاصفة، فهي التي ظهرت عارية (ومغمى عليها تحت تأثير مخدر) في "صالون هدى"، وهي التي كالت الشتائم على من حاول استدانة سلفة منها في "الحارة".  

أي عربي يعرف تمام المعرفة أن "الحارة" يصور الحياة العربية بدقة. في بعلبك اللبنانية ذات التقاليد المحافظة، والتي نشأت فيها في نفس الزمان والمكان الذي تأسس فيه "حزب الله" الإسلامي اللبناني، كانت العلاقات الجنسية، المثلية منها وغير المثلية، منتشرة، حتى في أكثر زوايا المجتمع تزمتا وتدينا، وكذلك كان استهلاك حشيشة الكيف والكحول وغيرها.

لا يعني ذلك انحلال وهبوط وانحدار، بل يعني أن الهندسة المجتمعية مستحيلة، وأن المجتمعات التي تسعى الى التعامل بواقعية مع الطبيعة البشرية وشهوتها الجنسية، وتسعى لتوعية من يمارسونها على محاسن ومخاطر هذه الممارسة، هي مجتمعات تتقلص فيها الحياة السرية في الظلام، اذ في الظلام ينمو الشر وتترعرع الجريمة، من شرف أو غيره، فيما يقلّص الانفتاح المشاكل الناجمة عن القمع، والتعييب، والكتمان، والحرمان.

حان وقت تعييب من يعيبون المنفتحين من العرب، ومن يحرّضون ضد من يحاول تصوير الحال على ما هي، ومن يحظرون الآراء التي تختلف عن رأي الجماعة. حان وقت تقديم كل الدعم والاحترام للعرب ممن يسعون لتصوير الحقيقة، والتعامل مع الناس وشؤونها على ما هي عليه، لا حسبما يتمنى الواهمون.

إن التمسك بالصورة الخيالية للمجتمع العربي الفاضل مشكلة قديمة ومزمنة بين العرب، والتمسك بالوهم عموما هو الذي فرض، وما يزال، الفشل العربي والانحطاط، فالعرب لم يخسروا حربا، وإن خسروها، فليس ذنبهم بل لتآمر العالم عليهم، وهذه مشكلة منذ هلل أحمد سعيد لنصر 1967 عبر "صوت العرب"، ليتضح أن الواقع كان هزيمة، وهي هزيمة لم تصفع العرب وتحملهم على التعامل مع الواقع، بل كرّست الوهم العربي الذي قلّل من شأنها بتسميتها نكسة، أي أنها كانت كبوة مؤقتة بانتظار الانتصار المؤكد الذي لم يأت حتى اليوم، ولن يأتي.

ومثل في مصر، كذلك في العراق الذي احترق جيشه الذي غزا الكويت، وأحرق معه النفط العربي الكويتي، وأعلن "أسد السنة" صدام حسين "النصر بعون الله" في "أم المعارك". وكذلك في بيروت، أعلن "حزب الله" انتصارا إلهيا على إسرائيل فيما زعيمه لا يجرؤ على الخروج من مخبئه تحت سابع أرض.  

إن سعي العرب لقبول الحقيقة والتعامل مع الواقع كما هو، لا كما يتمنوه، هو أساس الخروج من عصر الانحطاط الذي يعيشون فيه منذ عقود، وحسنا ما فعلت الأفلام التي أثارت هلع حراس الهيكل بتقديمها صورة الواقع العربي كما هو، بألفاظه اللطيفة كما النابية، وتصوير الخروج عن التقاليد جنسيا بين أفراد عليه القوم، كما في "أعز الأصحاب"، والأقل حظوة والمعدمين، كما في "الحارة".

لم تأت الديانات السماوية لتعدّل فطرة البشر، بل لتساعد في التعامل معها، فإن بعدت التعاليم عن الواقع، اقتصر الدين والتقاليد على الخيال والشعر فقط، واصبح الواقع منفصلا عن الانتاج الفكري والفني والأدبي. أما الأفضل، فهو ردم الهوة حتى ترافق الشريعة السمحاء وتقاليدها الزمن الحالي، لا أن تطلب طاعة عمياء يتظاهر الأتباع بتأديتها فيما هم يعيشون سرا نقيض ما يظهرونه علنا.

المزيد

إسقاط تمثال صدام
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.