قطر تستضيف بطولة كأس العالم
قطر تستضيف بطولة كأس العالم

"العقل العربي"، كتاب صدر في 1973 بقلم عالم الاجتماع اليهودي المجري رفائيل باتاي، الذي يختلط اسمه لدى بعض العرب مع رفائيل بطّي، والد الراحل فائق بطّي، السرياني الأرثوذكسي وأحد مؤسسي الصحافة اليومية العراقية. إبان حرب العراق، وزّع الجيش الأميركي على جنوده الكتاب، فاعترض البعض، مؤكدين أن اعتبار كل العرب عقل واحد، أو شخصية واحدة يعد تعميما وتبسيطا وعنصرية.

لكن علم الاجتماع مبني على تحديد طباع وتصرفات يشترك فيها أفراد المجتمع الواحد، وهذه الطباع معظمها اجتماعية، كالعادات والتقاليد. علماء كثيرون، كعالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي، دأبوا على فهم مساهمة الجماعي في صناعة الفردي. مثلا، يشعر الفرد بالطرب عند استماعه لأغان أو موسيقى من تراثه ولكن لا تطربه موسيقى شعوب لا ينتمي إليها. كذلك الأمر في خيارات المأكل والملبس وبعض العادات، كالصبر والانفعال، أو احترام الحيز العام أو عدمه. هذه خيارات فردية متأثرة بشخصية جماعية وعاداتها وطبائعها.

في كأس العالم لكرة القدم في قطر وبلوغ منتخب المغربي نصف النهائي، تجلّى عقم العقل العربي في الآفات التالية:

أولاً، عقدة النقص، والتي يستحضرنا فيها القول التالي للعزيز السوري الراحل صادق جلال العظم: "لقد تم صنع العالم الحديث دون مشاركة العرب أو حتى استشارتهم.. أُدخِلوا في نسيج العالم الحديث عنوة وإقحاماً وإلحاقاً. هذه الحقيقة هي مصدر العقدة النفسية الهائلة التي يعاني منها الفكر العربي". 

عقدة النقص هذه بدت جلية في حاجة العرب للظهور باستضافتهم بطولة رياضية يحسدونها وهم ليسوا منها، فتصرفوا كحديثي النعمة، وقاموا بشرائها واستضافتها لتعزيز شعورهم الذاتي أنهم كباقي الشعوب، فيما الواقع هو أن كرة القدم العربية تعاني من غياب مدارس وأكاديميات تنتج أجيالا من اللاعبين والمدربين والمنتخبات، على الرغم من "فلتات الشوط" بين البطولة والأخرى، على غرار منتخب السعودية أو المغرب أو تونس.

وانتصار المغرب حصل غالبا على أيدي أوروبيين من أصول عربية. المغربي الذي سجل ركلة الجزاء الحاسمة أشرف حكيمي هو من مواليد مدريد، ويلعب في نادي باريس سان جيرمان الفرنسي، وكذلك عدد كبير من اللاعبين المغاربة الذين لم يصقلوا مواهبهم في الدوريات، ولا في الأكاديميات العربية، بل في نوادي أوروبا. 

ثانياً، حب التباين للظهور. في العالم الذي صنعه الغرب وتعيش فيه الدول العربية كمستهلكة ولا تساهم في صناعة الأفكار ولا العلوم، إلا فيما ندر، يشعر بعض العرب أن عليهم التباين عن باقي العالم لإظهار شخصيتهم الفريدة وهويتهم. المشكلة هنا أن الفرادة التي يقدمها العرب قروسطوية تتضارب مع مفاهيم الحداثة وعصر الأنوار، خصوصا لناحية الحرية الفردية. 

لا ترى هذه الفئة من العرب أن تفوق الشعوب مبني على إطلاق عنان الحرية الشخصية والمبادرة الفردية. يعتقدون أن كل أمة، عربية أو فارسية أو غربية، هي جسد واحد متناسق يتطابق فيه الأفراد في الآراء والأذواق. المجتمع الغربي، حسب الاعتقاد العربي، منحل ويتبنى المثلية الجنسية ويحاول فرضها على باقي الشعوب. 

من نافل القول، أن الغرب ينقسم حول المثلية بين مؤيد ومعارض، وهو لا يشجع عليها، بل هو يشجع على الحرية، أي حرية تقبّل الخيار الجنسي للمثليين كما غيرهم. هكذا، تتحول مطالبة الغرب لقطر باحترام حرية المثليين إلى "فرض المثلية" على مجتمع عربي يخال أن المثلية غريبة عنه، وكأن أبو نؤاس، وخمرته، وغلمانه بدع يسعى الغرب لإدخالها على العرب.

وهكذا يتحول القمع إلى تراث عربي، وينغمس بعض العرب في صياغة قواعد سطحية، مثل أن "حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين"، وكأن الحرية كمية محددة يتم تقاسمها. ثم يتباهى هؤلاء العرب أن قطر فرضت على العالم احترام التقاليد العربية، وكأنهم لا يدرون أن الصورة التي قدمتها قطر للعالم هي أن القمع هو تقليد عربي.

هذا لا يعني أن التقاليد العربية مصدر خزي، بل على العكس تماما. فبين العرب محبة وألفة وكرم ضيافة قلّ مثيلها بين شعوب العالم. وللعرب تراث ثقافي وموسيقي جميل، ومآكل وملابس واختراعات، كالقهوة والكاميرا، وهي القُمرة التي اكتشفها عرب الأندلس.

وبدا جميلا لما ارتدت الشعوب غير العربية الغترة والعقال، الزي العربي، على ألوان أعلام بلدانها، وكان يمكن لقطر إظهار الكرم العربي بالحرص على أن يتصرف زوارها وكأنهم في بيتهم، وأن يمارسوا مثليتهم أو غيرها، لا أن يتم فرض القيود — التي يفرضها العرب على أنفسهم — على زوار قطر. ويمكن استعادة أمجاد الأندلس بمحاولة تكرار حرية ناسه، ومساهماتهم الفكرية والعلمية للبشرية، لا التمسك بالفتح، والسيف، والحرب، والقمع وكأنها هي التراث العربي.

ثالثاً، النكاية. بسبب الشعور بالدونية، يعتقد بعض العرب أن العالم المتقدم يعاديهم، ويستهدفهم، ويسعى لإعاقة تقدمهم. عربية في أميركا كانت تشاهد نفس القناة التي كنت أشاهد مباراة المغرب وإسبانيا عبرها، قالت إن معلقي القناة التزموا الصمت التام بعد تسجيل حكيمي ركلة الجزاء التي أهلّت المغرب لربع النهائي (على اعتبار أنهم حاقدون على العرب والمسلمين فيما انتصار المغرب أسكتهم). في الواقع، لم يصمت المعلقون الأميركيون، بل راحوا يشيدون بنجاحات حكيمي المنحدر من عائلة متواضعة، إذ كانت والدته عاملة تنظيف ووالده بائع متجوّل في الشارع. 

على وسائل التواصل الاجتماعي، استعرض بعض العرب كل خيباتهم. هنا صورة للاعبي المغرب يسجدون في الملعب، مع أن صلاة المسلمين تقام في عموم المعمورة بدون أي اعتراض. هناك علم فلسطين وعبارة "فلسطين تجمع العرب"، فيما الواقع أن فتح وحماس، من أكبر التنظيمات الفلسطينية، لم يتواصلا منذ 2007. أما من تحمّس كثيرا، فاستعاد أمجاد الأندلس، مع أنه ماض استعماري استعبادي يعاديه كثيرون في العالم اليوم، وفي طليعتهم عرب العالم الغربي. لكن العرب يعادون استعمار الآخرين لهم ويمدحون استعمارهم للآخرين.

لن تقوم قائمة للعرب قبل أن يدركوا أن الحرية الفردية هي حجر زاوية نجاح الشعوب، وهي تتضمن حرية الرأي في دعم فلسطين أو في تفضيل إسرائيل عليها، وتتضمن حرية العبادة وخصوصيتها، لأن في المغرب مسيحيون ويهود، وحتى يفخر هؤلاء بمنتخبهم، لا يجوز أن يؤدي المنتخب صلاة الجماعة الإسلامية أمام الإعلام، بل يمكن للاعبين المسلمين إقامة صلاة جماعة للاحتفال بالانتصار في فندقهم فور عودتهم إليه. 

كذلك في الحرية، حرية الناس في اختيار ملبسها أو عريها، واختيار مأكلها ومشربها، مع كحول أو بدونه، واختيار تفضيلها الجنسي، مثلي أم متحول أم السائد المعروف أم كل هؤلاء سوية. 

الحرية التي انتزعتها أوروبا من فم الكنيسة هي التي سمحت بتطور الفلسفة والعلوم والصناعات. الحرية هي التي تسمح لروسي بابتكار محرك البحث غوغل في أميركا ولا تسمح له بذلك في بلده الأم. الحرية هي مفتاح الانتصارات، في كرة القدم، والعلوم، والتنظيم المجتمعي ،والعام. 

أما استضافة كأس العالم بعائدات النفط وفوز المغرب، ففلتات شوط وانتصارات على شكل فورات، تظهر بين الفينة والأخرى ثم تذوي، ويعود العرب الى شقائهم بسبب عقم عقل كثيرين منهم.

المزيد

إسقاط تمثال صدام
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.